الوطنية مقابل المواطنية- صراع الهوية والانتماء في عالم متغير

المؤلف: د. منصف المرزوقي09.24.2025
الوطنية مقابل المواطنية- صراع الهوية والانتماء في عالم متغير

في أحد شوارع باريس، بينما كنت أسير، تفاجأت بسيارة قادمة من الاتجاه المقابل. لم يتردد سائقها في فتح نافذته ليطلق عليّ عبارات نابية، واصفًا إياي بـ "البيّوع"، وهي كلمة في اللهجة التونسية تعني بائع الوطن، أي الخائن في أبشع صوره.

لا ريب أنه من مناصري السلطة المستبدة، ذلك الذي لا يفوّت فرصة إلا ويندد بالخونة والمتآمرين أمثالي، وأمثال العديد من خيرة أبناء تونس الذين يقبعون في السجون حتى هذه اللحظة. هذا الشخص يظن بكل يقين أنني "بيّوع"، لكنه في حيرة من أمره، لا يعلم لمن بعت وطني، وكم هو المبلغ الذي قبضته، وأين أخفيت هذا المال الحرام.

من العبث مواجهة أتباع السلطة بحجج منطقية، كأن نقول: إن وطنيتنا هي التضحية بأنفسنا من أجل القيم والمبادئ، بينما وطنيتكم هي التضحية بالآخرين من أجل تحقيق مكاسب شخصية ومصالح ضيقة. وطنيتنا هي نضال مستمر، بينما وطنيتكم هي مجرد تمثيل وأداء مصطنع. هذه الأصوات المؤيدة للسلطة مجندة ليل نهار لترويج الأكاذيب والادعاء بأن العكس هو الصحيح، ولها في أوساط الرعايا من يصدقها ويهتف لها.

إنها الوطنية التي يمكن أن نسميها بالوطنية "النظامية"، لأنها تربط بشكل تلقائي بين الإخلاص للوطن والإخلاص للنظام السياسي الحاكم، وهي، بالإضافة إلى الانتخابات التي تقام بنسبة تسعين بالمئة، السمة المميزة لكل نظام استبدادي.

قد يجادل البعض بأن هذا النوع من الوطنية الزائفة لا ينطلي على أحد، وفي جميع الأحوال، لا يمكن اعتباره دليلًا قاطعًا على الوطنية "الحقيقية".

نعم، ولكن...

ماذا لو كان المفهوم ذاته مشحونًا بخصائص تجعل من السهل على الاستبداد الاستيلاء عليه وتوظيفه في صراعاته الدنيئة ضد معارضيه؟

يقول الفيلسوف الصيني لاو تزو: لا وجود للأنثى كأنثى إلا بوجود الذكر.. كيف لك أن تعرف الجمال إن لم تعرف القبح.. ما معنى الخير دون وجود الشر؟

في هذا السياق، يمكننا القول إننا عندما نخلق لغويًا وعاطفيًا وسياسيًا مفهوم "الوطني"، فإننا نخلق معه تلقائيًا نقيضه. فكيف لنا أن نعرف من هو الوطني إن لم نقم بمقارنته بهذا العدو الداخلي الذي نسميه "الخائن"، والذي يجب مواجهته بالكراهية والازدراء، وضرورة التخلص منه.

هكذا تقاس الوطنية عند البعض بمقدار السخط الذي يظهرونه، تراهم منتفخي الأوداج، ينددون ويشجبون ويلعنون ويهددون الخونة الذين يعرفون بأنهم يرفضون الولاء للنظام الذي يزعم أنه وحده الحامي الأمين للوطن وقضاياه المقدسة.

العنصر الضروري الثاني لوجود الوطنية هو العدو الخارجي. قد يكون كرهه مبررًا عندما يكون في صورة الغازي والمستعمر (كإسرائيل بالنسبة للفلسطينيين). ولكن قد يكون العدو وهميًا ومصطنعًا. هذا ما يحدث الآن في العديد من الدول الغربية، حيث يتم تصوير المهاجرين على أنهم قوة غزو خارجية، وتقاس درجة الوطنية عند اليمينيين المتطرفين بمدى كراهيتهم للأجانب، وبقدر الأذى الذي يستطيعون إلحاقه بهم.

المكون الخطير الثالث للوطنية هو ما أسميه "الهوية المتضادة". فالهوية كما يفهمها "الوطني"، سواء كان معتدلًا أم متشددًا، تقوم دائمًا على معارضة هوية الآخر. يكمن داخل هذا الفهم للهوية عنصر خفي بخبث أو ظاهر بوقاحة، وهو عنصر التفضيل والتميز والتفوق.

قد يبقى هذا العنصر مقيدًا ومسيطرًا عليه، ولا يكشف عن وجوده الصامت إلا من خلال بعض النكات السخيفة حول عيوب الآخر المفترضة، أو الهتافات للفريق الوطني في ملاعب كرة القدم. ولكنه قد يتطور إلى مشاحنات فظة على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، وصولًا إلى صراعات دامية يتحول فيها الإخوة إلى ألد الأعداء بسبب الوطنية.

قد يقول قائل إن من الظلم اختزال الوطنية في كراهية عدو داخلي أو خارجي، سواء كان حقيقيًا أم وهميًا، أو التباهي بتفوق حقيقي أو خيالي على الآخرين. ماذا عن الوطنية كحب جارف لأرض الآباء والأجداد؟ أليس هذا الشعور أيضًا مكونًا أساسيًا لا يمكن تجاهله في أي تحليل موضوعي للمفهوم؟

من هو أكثر مني حبًا لأرض الآباء والأجداد، خاصة في هذه الأيام التي أجبرت فيها، في خريف العمر، على خوض المنفى للمرة الثالثة في حياتي، بعد أحكام بالسجن في قضايا ملفقة؟ لا يمر يوم دون أن يشتد شوقي لنخيل الجنوب الباسق، ولزيتون الساحل الممتد، ولمزارع الكروم والبرتقال في الوطن القبلي، ولغابات البلوط الشامخة في جبال الشمال الغربي، حين تكسوها ثلوج الشتاء البيضاء. قد لا يشعر المرء بكل هذا الحب إلا عندما يحرم من أرض استولى عليها وطنيو اللحظة الأخيرة.

حسنًا، ولكن إلى أين يقودنا هذا الحديث؟ بالطبع لن يوصلنا إلى مكان بعيد، فمن الطبيعي بين البشر في كل زمان ومكان أن يحب كل إنسان الأرض التي نشأ فيها، تمامًا كما يحب الأم التي ولدته. قد نشارك محمود درويش في حنينه لخبز أمه وقهوتها، وننصت بخشوع لفيروز وهي تشدو لأمها الملاك.

ولكن، تخيل كم سيكون المشهد مضحكًا ونحن نغرق تحت سيل من القصائد التي تمجد أمنا وتضعها فوق كل الأمهات، وتؤكد استعدادنا للموت من أجلها. أليس من خصائص الحب الحقيقي أنه لا يحتاج إلى صراخ، وإلا كان هذا الصراخ دليل شك في صدق ما يدعى؟

هناك أسئلة أخرى تتعلق بهذه الوطنية، ولنسميها "الوطنية الجغرافية"، لأنها مرتبطة بعلاقة خاصة مع مكان محدد بحدود واضحة.

ألا نرى جميعًا داخل حدود الوطن الواحد سموم الجهوية والمناطقية، حيث يتوقف حب البعض عند الرقعة الجغرافية الصغيرة لمنطقتهم، مع نفور، بل وحتى كراهية، للمناطق الأخرى؟ كم هو مضحك أن نتخيل هؤلاء القوم المنغلقين داخل قبليتهم وجهتهم وهم ينشدون النشيد الوطني الرسمي الذي يمجد نفس الوطن، بينما هم في دواخلهم يكرهون بعضهم البعض ويغارون من بعضهم البعض.

دعونا نتناول المفهوم من الاتجاه المعاكس.

الوطنية التونسية تطلب مني أن ينخفض "مقياس" الحب الوطني من الدرجة العاشرة إلى الدرجة الواحدة أو الثانية بمجرد أن أتجاوز معبر "ببوش" على الحدود الجزائرية؛ لأن حب الأرض الواقعة بين "ببوش" و "زوج بغال" على الحدود المغربية هو مسؤولية الجزائريين وحدهم.

حسنًا، ولكن ماذا أفعل وأنا العروبي (ولست القومي، والحمد لله) بحبي لأزقة خان الخليلي والحميدية وسوق واقف وساحة جامع الفنا، ولي في كل هذه الأماكن أجمل الذكريات، ويشدني الشوق إليها أحيانًا بنفس قوة الشوق لأزقة القيروان وسوسة وتونس العاصمة؟

صحيح أنني شعرت بالقلق عندما اندلعت الحرائق في شرق الجزائر؛ خوفًا من امتدادها إلى شمال غرب تونس والقضاء على ما تبقى فيه من غطاء نباتي. لكنني شعرت بنفس القلق عندما اجتاحت الحرائق منذ سنوات غابات أستراليا وكندا؛ لعلمي أن الآثار الكارثية لهذه الحرائق لن يسلم منها شعب أو وطن في عالم لا حدود فيه إلا الوهمية التي نرسمها على الخرائط.

أتذكر أنني اصطدمت يومًا بشخص عنصري صرخ في وجهي: "أرجو يا سيدي أن تتذكر أنك في بلدي!" فأجبته ببرود: "وأرجو يا سيدي أن تتذكر أنك على كوكبي".

الخلاصة أن الوطنية إذا بنيت على الكراهية فهي كارثة؛ لأنها لا تخلق "الخائن" فحسب، بل تخلق معه "القاضي" و"الجلاد" وسجونًا شبيهة بـ "برج الرومي" و"أبو سليم" و"تازمامارت" و"أبو غريب" و"صيدنايا". أما إذا بنيت على حب جارف لقطعة أرض محاطة بحدود وهمية رسمتها ظروف تاريخية دون اعتبار لوحدة الأرض، فهي التي تقف وراء معظم الحروب العبثية التي لطخت تاريخ جنسنا البشري بدماء الأبرياء.

بالنسبة لأولئك الذين تربوا على أن التشكيك في قدسية الوطنية هو بمثابة التشكيك في وجود الله، لا يبقى لديهم إلا الحجة الأخيرة، وهي أن الوطنية، على الرغم من انحرافاتها، هي أقوى حافز للإبداع والابتكار في التنافس الشرس المفروض على الشعوب والحضارات.

صحيح.. ولكن انظر أيضًا إلى الثمن.

إن أكبر تزييف للحقائق يرتكبه وطنيو الاستبداد ليس فقط تصوير الوطنيين كخونة والخونة كوطنيين، بل أيضًا تسمية رعاياهم "مواطنين". هكذا تسمع في وسائل الإعلام التابعة للأنظمة الاستبدادية أنه يرجى من المواطنين فعل كذا وكذا، وأن مواطني منطقة ما خصوا الرئيس باستقبال حافل، وأن المواطنين مدعوون للانتخابات يوم كذا.. إلخ.

ابحث عن الحقيقة المقلوبة لتجد شعبًا من الرعايا يخضع لكل مقاييس ومؤشرات الرعوية. فالنظام الاستبدادي يمتلك الحق المطلق في التصرف في الأجساد تعذيبًا وحبسًا ومنعًا من التنقل متى شاء. كما أنه يمتلك الحق في التصرف في كرامة البشر وحرياتهم. ولا تسل عن حقه غير القابل للتصرف في التصرف في أموالهم بكل أشكال الفساد.

ومما لا شك فيه أن الاستبداد، حتى لو أخذنا في الاعتبار كل "إيجابياته"، مثل الاستقرار والأمن، وحتى التقدم الاجتماعي والاقتصادي، كما هو الحال في الصين، هو آلة لتصنيع شعب من الرعايا؛ أي شعب من البشر الخائفين الذليلين الخانعين الذين ينتقمون ممن سلبوا حريتهم وكرامتهم بالمقاومة السلبية إلى حين وقوع الانفجار الثوري.

كذلك لا جدال في أن الديمقراطية بمؤسساتها وقوانينها (على الرغم من سلبياتها مثل الإضرابات والأزمات السياسية) هي آلة لصنع شعب من المواطنين، ومصنوعة منه. وما يحرك هذه الآلة ويغذيها ويحافظ عليها ويصلحها هو المواطنية لا غير.

للاقتراب من جوهر المفهوم، يجب أن ندرس أين تتقاطع المواطنية بشكل جذري مع الوطنية، وكيف تعيد رسم صورة الوطن الذي يشكل نقطة الاتفاق ونقطة الخلاف بين المفهومين.

  • القطيعة الأولى: الوطن ليس مجرد قطعة من الأرض محاطة بحدود. بل هو جميع البشر الذين يعيشون على هذه القطعة من الأرض؛ أي أن الوطن هو المواطنون لا غير.
  • القطيعة الثانية: خريطة الوطن مرسومة على جسد كل مواطن، وكل مواطن هو الممثل الشرعي للوطن. وبالتالي، فإن القول بشرعية التنكيل بالمواطن من أجل رفعة الوطن هو قول أحمق ومجرم، كقولنا بجواز قطع أصابع اليدين وعور العين وكسر عظم الترقوة حفاظًا على صحة الجسم.
  • القطيعة الثالثة: المواطنون هم من يملكون الدولة التي بدورها تملك الأرض التي تسمى وطنًا، وليست الدولة هي التي تملكهم. أي أنهم هم من يملكون الوطن وليس الوطن من يملكهم. وبناء على ذلك، لا يحق لأحد أن يستأثر بالوطن أو يدعي تمثيله إلا بتفويض ديمقراطي مؤقت من قبل شعب حر، وفي إطار شروط المواطنية.

لاحظ هنا أنه باختفاء "الخائن العميل المتآمر" من منظومة المواطنية، يتبخر البوليس السياسي والجلادون والقضاة الفاسدون والسجون المخيفة. قد تسأل: ولكن كيف تحل الخلافات والتصرفات "اللامواطنية" مثل انتهاك حقوق الآخرين، وعدم الالتزام بالواجبات التي يفرضها العقد الاجتماعي؟

بالطبع ستكون هناك صراعات نابعة من الأنانية والمصالح والقيم المتضاربة، ولكنها ستحل عن طريق الاحتكام إلى صناديق الاقتراع أو إلى قضاء مستقل وعادل قولًا وفعلًا. تخيل للحظة حجم الآلام التي يمكن أن تتجنبها المواطنية، مقارنة بالكم الهائل من المعاناة التي تتسبب فيها الوطنية.

يمكننا الآن، بعد أن عبرنا عن استيائنا من الوطنية والوطنيين، أن نبدأ في البحث عن شروط ومواصفات المواطنية:

  1. المواطنية هي مجموعة المواقف والتصرفات الفردية والجماعية المتفق عليها بين أفراد المجتمع، والقائمة على أساس قبولهم بأنهم جميعًا يتمتعون بنفس الحقوق المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي مقدمتها الحق في الحرية والكرامة والمساواة، وأن عليهم نفس الواجبات، أي احترام حقوق الآخرين المنصوص عليها في هذا الإعلان، مع رفض التخلي عن أي من هذه الحقوق مهما كانت قوة الضغط، والالتزام بجميع الواجبات المترتبة على هذه الحقوق دون الحاجة إلى أي إكراه.
  2. المواطنية هي أساس العقد السياسي، الذي يربط بين المواطنين ودولة القانون والمؤسسات التي تستمد شرعيتها من إرادتهم الحرة، والتي لا تهدف إلا إلى تمكينهم من جميع حقوقهم، وتسهيل قيامهم بواجباتهم.
  3. المواطنية هي التزام أخلاقي وسياسي لا يقتصر على الحدود الوهمية للوطن الجغرافي، بل يتجاوزها ليشمل جميع البشر، سواء كانوا من نفس العرق أم لا؛ لأن المواطن لا يبني هويته على ما يفرق بين البشر، بل على أهم ما يجمعهم، ألا وهي إنسانيتهم المشتركة. وشعاره هو ما رفعه العظيم نيلسون مانديلا: "الإنسان الحر ليس هو الذي يدافع عن حريته فحسب، بل هو الذي يدافع عن حرية الآخرين".

هناك فرق جوهري أخير بين الوطنية والمواطنية. فالأولى موجودة في الواقع، سواء في شكلها الصادق أم في شكلها الوظيفي. أما المواطنية فهي غير موجودة في معظم المجتمعات، أو توجد بشكل ناقص ومهدد حتى في الديمقراطيات التمثيلية التي تضمن بعض شروطها كالحرية، ولكنها تعجز عن توفير شروط أخرى كالمساواة.

المواطنية، إذن، هي مشروع وليست حقيقة قائمة، وهذا المشروع لن يتسع ويتعمق إلا بتطوير الديمقراطية نفسها. المواطنية هي نضال لا يزال في بدايته ويجب أن يستمر حتى يصبح الوطن هو الأرض التي نهرب إليها، بعد أن جعلته الوطنية الأرض التي نهرب منها

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة